فصل: الباب الثالث متأخرو حكماء اليونان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الملل والنحل **


 الباب الثالث متأخرو حكماء اليونان

وهم الحكماء الذين تلوهم في الزمان وخالفوهم في الرأي مثل أرسطو طاليس ومن تابعه على رأيه مثل‏:‏ الإسكندر الرومي والشيخ اليوناني وديوجانس الكلبي‏.‏

وغيرهم وكلهم على رأى أرسطو طاليس في المسائل التي تفرد بها عن القدماء‏.‏

ونحن نذكر من آرائه ما يتعلق بغرضنا‏:‏ من المسائل التي شرع فيها الأوائل وخالفهم المتأخرون‏.‏

ونحصرها في ست عشرة مسألة‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

رأى أرسطو طاليس بن نبقو ماخوس من أهل أسطاخرا‏.‏

وهو المقدم المشهور والمعلم الأول والحكيم المطلق‏.‏

عندهم‏.‏

وكان مولده في أول سنة من ملك أردشير بن دارا فلما أتت عليه سبع عشرة سنة أسلمه أبوه إلى المؤدب أفلاطون فمكث عنده نيفاً وعشرين سنة‏.‏

وإنما سموه المعلم الأول لأنه واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل وحكمه حكم واضع النحو وواضع العروض فإن نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن كنسبة النحو إلى الكلام والعروض إلى الشعر‏.‏

وهو واضع لا بمعنى أنه لم تكن المعاني مقومة بالمنطق قبله فقومها بل بمعنى أنه جرد آلته عن المادة فقومها تقريبا إلى أذهان المتعلمين حتى يكون كالميزان عندهم يرجعون إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ والحق بالباطل‏.‏

إلا أنه أجمل القول فيه إجمال الممهدين وفصله المتأخرون تفصيل الشارحين‏.‏

وله حق السبق وفضيلة التمهيد‏.‏

وكتبه في الطبيعيات والإلهيات والأخلاق معروفة ولها شروح كثيرة‏.‏

ونحن اخترنا في نقل مذهبه شرح ثامسطيوس الذي اعتمده مقدم المتأخرين ورئيسهم أبو علي بن سينا وأوردنا نكتاً من كلامه في الإلهيات وأحلنا باقي مقالاته في المسائل على نقل المتأخرين إذ لم يخالفوه في رأي ولا نازعوه في حكم بل هم كالمقلدين له المتهالكين عليه وليس الأمر على ما مالت ظنونهم إليه‏.‏

المسألة الأولى‏:‏ في إثبات واجب الوجود الذي هو المحرك الأول‏.‏

قال في كتاب أولوجيا من حرف اللام‏:‏ إن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب‏:‏ اثنان طبيعيان وواحد غير متحرك‏.‏

قال‏:‏ إنا وجدنا المتحركات على اختلاف جهاتها ة أوضاعها ولا بد لكل متحرك من محرك فإما أن يكون المحرك متحركاً فيتسلسل القول فيه ولا يتحصل وإلا فيستند إلى محرك غير متحرك‏.‏

ولا يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوة فإنه يحتاج إلى شئ آخر يخرجه من القوة إلى الفعل إذ هو لا يتحرك من ذاته من القوة إلى الفعل فالفعل إذا أقدم من القوة وما بالفعل أقدم على ما بالقوة‏.‏

وكل جائز وجوده ففي طبيعته معنى ما بالقوة وهو الإمكان والجواز فيحتاج إلى واجب به يجب وكذلك كل متحرك فيحتاج إلى محرك فواجب الوجود بذاته‏:‏ ذات وجودها غير مستفاد من وجود غيره وكل موجود فوجوده مستفاد عنه بالفعل‏.‏

وجائز الوجود له في نفسه وذاته الإمكان وذلك إذا أخذته بلا شرط وإذا أخذته بشرط علته فله الوجوب وإذا أخذته بشرط لا علية فله الامتناع‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ في أن واجب الوجود‏.‏

أخذ أرسطو طاليس يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إن العالم واحد ويقول‏:‏ إن الكثرة بعد الاتفاق في الحد ليست إلا في كثرة العنصر وأما ما هو بالآنية الأولى فليس له عنصر لأنه تمام قائم بالفعل‏.‏

لا يخالط القوة فإذاً المحرك الأول واحد بالكلمة والعدد أي بالاسم والذات‏.‏

قال‏:‏ فمحرك العالم واحد لأن العالم واحد‏.‏

هذا نقل ثامسطيوس‏.‏

وأخذ من نصر مذهبه يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إنه واجب الوجود لذاته قال‏:‏ ولو كان كثيراً لحمل واجب الوجود عليه وعلى غيره بالتواطؤ فيشملها جنساً وينفصل أحدهما عن الآخر نوعاً فتتركب ذاته من جنس وفصل فتسبق أجزاء المركب على المركب سبقاً بالذات فلا يكون واجباً بذاته‏.‏

ولأنه لو لم يكن هو بعينه واجب الوجود لذاته لا لشيء عنه بل لأمر خارج عنه واجب بذاته لكان واجب الوجود بذلك الأمر الخارج فلم يكن واجباً بذاته‏.‏

هذا‏:‏ خلف‏.‏

المسألة الثالثة في أن واجب الوجود لذاته‏:‏ عقل لذاته وعاقل ومعقول لذاته عقل من غيره أو لم يعقل‏.‏

أما أنه عقل فلأنه مجرد عن المادة منزه عن اللوازم المادية فلا تحتجب ذاته عن ذاته‏.‏

وأما أنه عاقل لذاته فلأنه مجرد لذاته‏.‏

وأما أنه معقول لذاته فلأنه غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره‏.‏

قال‏:‏ الأول يعقل ذاته ثم من ذاته يعقل كل شيء فهو يعقل العالم العقلي دفعة واحدة من غير احتياج إلى انتقال وتردد من معقول إلى معقول وأنه ليس يعقل الأشياء على أنها أمور خارجة عنه فيعقلها منها كحالنا عند المحسوسات بل يعقلها من ذاته وليس كونه عاقلاً وعقلاً‏:‏ بسبب وجود الأشياء المعقولة حتى يكون وجودها قد جعله عقلاً بل الأمر بالعكس أي عقله للأشياء جعلها موجودة‏.‏

وليس للأول شيء يكمله فهو الكامل لذاته المكمل لغيره فلا يستفيد وجوده من وجود كمالاً‏.‏

وأيضاً فإنه لو كان يعقل الأشياء من الأشياء لكان وجودها متقدماً على وجوده ويكون جوهره في نفسه وفي قوامه وفي طباعه‏:‏ أن يقبل معقولات الأشياء من الأشياء فيكون في طباعه ما هو بالقوة من حيث يكمل بما هو خارج عنه حتى يقال‏:‏ لولا ما هو خارج عنه لم يكن له ذلك المعنى وكان فيه عدمها فيكون الذي له في طباع نفسه وباعتبار نفسه من غير إضافة إلى غيره أن يكون عادماً للمعقولات ومن شأنه أن يكون له ذلك فيكون باعتبار نفسه مخالطاً للإمكان والقوة‏.‏

وإذ فرضنا أنه لم يزل ولا يزال موجوداً بالفعل فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل الأفضل لا من غيره‏.‏

قال‏:‏ وإذا عقل ذاته‏:‏ عقل ما يلزمها لذاتها بالفعل وعقل كونه مبدأ وعقل كل ما يصدر عنه على ترتيب الصدور عنه وإلا فلم يعقل ذاته بكنهها‏.‏

قال‏:‏ وإن كان ليس يعقل بالفعل فما الشيء الكريم الذي له وهو الكون الناقص كماله‏!‏ فيكون حاله كحال النائم وإن كان يعقل الأشياء من الأشياء فتكون الأشياء متقدمة عليه بتقدم ما يقبله ذاته وإن كان يعقل الأشياء من ذاته فهو المرام والمطلب‏.‏

وقد يعبر عن هذا الغرض بعبارة أخرى تؤدي قريباً من هذا المعنى فيقول‏:‏ إن كان جوهره العقل وأن يعقل فإما أن يعقل‏.‏

ذاته أو غيره فإن كان يعقل شيئاً آخر فما هو في حد ذاته غير مضاف إلى ما يعقله وهل لهذا المعتبر بنفسه فضل وجلال مناسب لأن يعقل بأن يكون بعض الأحوال أن يعقل له أفضل من أن لا يعقل أو بأن لا يعقل يكون له أفضل من أن يعقل‏.‏

فإنه لا يمكن القسم الآخر‏:‏ وهو أن يكون يعقل الشيء الآخر افضل من الذي له في ذاته من حيث هو في ذاته شيء يلزمه أن يعقل فيكون فضله وكماله بغيره‏.‏

وهذا محال‏.‏

المسألة الرابعة في أن واجب الوجود لا يعتريه تغير وتأثر من غيره بأن يبدع أو يعقل‏.‏

قال‏:‏ الباري تعالى عظيم الرتبة جداً غير محتاج إلى غيره ولا متغير بسبب من غيره‏:‏ سواء كان التغير زمانياً أو كان تغيراً بأن ذاته تقبل من غيره أثراً وإن كان دائماً في الزمان‏.‏

وإنما لا يجوز له أن يتغير كيفما كان لأن انتقاله إنما يكون إلى الشر لا إلى الخير لأن كل رتبة غير رتبته فهي دون رتبته وكل شيء يناله ويوصف به فهو دون نفسه ولا يكون أيضاً مناسباً للحركة خصوصاً إن كانت بعدية زمانية‏.‏

وهذا معنى قوله‏:‏ إن التغير‏:‏ إلى الشيء الذي هو شر‏.‏

وقد ألزم على كلامه‏:‏ أنه إذا كان الأول يعقل أبداً ذاته فإنه يتعب ويكل ويتغير ويتأثر‏.‏

وأجاب ثامسطيوس عن هذا بأنه إنما لا يتعب لأنه يعقل ذاته وكما لا يتعب من أن يحب ذاته فإنه لا يتعب من أن يعقل ذاته‏.‏

قال أبو الحسين بن عبد الله بن سينا‏:‏ ليست العلة أنه لذاته يعقل‏.‏

أو لذاته يجب بل لأنه ليس مضاداً لشيء في الجوهر العاقل فإن التعب هو أذى يعرض لسبب خروج عن الطبيعة وإنما يكون ذلك إذا كانت الحركات التي تتوالى مضادت لمطلوب الطبيعة فأما الشىء الملائم اللذيذ المحض الذي ليس فيه منافاة بوجه فلم يجب أن يكون تكرره متعباً‏.‏

المسألة الخامسة في أن واجب الوجود حي بذاته باق بذاته أي كامل في أن يكون بالفعل مدركاً لكل شيء نافذ الأمر في كل شيء‏.‏

وقال‏:‏ إن الحياة التي عندنا يقترن بها من إدراك خسيس وتحريك خسيس وأما هناك فالمشار إليه بلفظ الحياة‏:‏ هو كون العقل التام بالفعل الذي يتعقل من ذاته كل شيء وهو باق الدهر أزلي فهو حي بذاته باق بذاته‏.‏

عالم بذاته‏.‏

وإنما ترجع جميع صفاته إلى ما ذكرنا من غير تكثر ولا تغير في ذاته‏.‏

المسألة السادسة في أنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد‏.‏

قال‏:‏ الصادر الأول هو العقل الفعال لأن الحركات إذا كانت كثيرة ولكل متحرك فيجب أن يكون عدد المحركات بحسب عدد المتحركات فلو كانت المحركات والمتحركات تنسب إليه لا على ترتيب أول وثان بل جملة واحدة لتكثرت جهات ذاته بالنسبة إلى محرك محرك ومتحرك متحرك فتكثر بذاته‏.‏

وقد أقمنا البرهان على أنه واحد من كل وجه فلن يصدر عن الواحد من كل وجه إلا واحد وهو العقل الفعال‏.‏

وله في ذاته وباعتبار ذاته إمكان الوجود وباعتبار علته وجوب الوجود فتتكثر ذاته لا من جهة علته فيصدر عنه شيئان ثم يزيد التكثر في الأسباب فتتكثر المسببات والكل ينسب إليه‏.‏

المسألة السابعة في عدد المفارقات‏.‏

قال‏:‏ إذا كان عدد المتحركات مرتباً على عدد المحركات فتكون الجواهر المفارقة كثيرة على ترتيب‏:‏ أول وثان فلكل كرة متحركة محرك مفارق غير متناهي القوة يحرك كما يحرك المشتهي والمعشوق ومحرك آخر مزاول للحركة فيكون صورة للجرم السماوي فالأول عقل مفارق والثاني نفس مزاول فالمحركات المفارقة تحرك على أنها مشتهاة معشوقة والمحركات المزاولة تحرك على أنها مشتهية عاشقة‏.‏

ثم يطلب عدد المحركات من عدد حركات الأكر‏.‏

وذلك شيء لم يكن ظاهراً في زمانه وإنما ظهر بعد‏.‏

والأكر تسع لما دل الرصد عليها فالعقول المفارقة عشرة‏:‏ تسعة منها مدبرات النفوس التسعة المزاولة وواحد هو العقل الفعال‏.‏

المسألة الثامنة في أن الأول مبتهج بذاته‏.‏

قال أرسطوطاليس‏:‏ اللذة في المحسوسات هو الشعور بالملائم وفي المعقولات الشعور بالكمال الواصل إليه من حيث يشعر به‏.‏

فالأول مغتبط بذاته ملتذ بها لأنه يعقل ذاته على كمال حقيقتها وشرفها وإن جل عن أن ينسب إليه لذة انفعالية‏.‏

بل يجب أن يسمي ذلك‏:‏ بهجة وعلاء وبهاء‏.‏

كيف ونحن نلتذ بإدراك الحق ونحن مصروفون عنه مردودون في قضاء حاجات خارجة عما يناسب حقيقتنا التي نحن بها ناس وذلك لضعف عقولنا وقصورنا في المعقولات وانغماسنا في الطبيعة البدنية لكنا نتوصل على سبيل الاختلاس فيظهر لنا اتصال بالحق الأول فيكون كسعادة عجيبة في زمان قليل جداً وهذه الحال له أبداً وهو لنا غير ممكن لأنا مذنبون ولا يمكننا أن نشيم تلك البارقة الإلهية إلا خطفه وخلسة‏.‏

المسألة التاسعة في صدور نظام الكل وتربيته عنه‏.‏

قال‏:‏ قد بينا أن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب‏:‏ اثنان طبيعيان وواحد غير متحرك‏.‏

وقد بينا القول في الواحد غير المتحرك وأما الاثنان الطبيعيان فهما‏:‏ الهيولى والصورة أو العنصر والصورة وهما مبدأ الأجسام الطبيعية‏.‏

وأما العدم فيعد من المبادئ بالعرض لا بالذات‏.‏

فالهيولى جوهر قابل للصورة والصورة معنى ما يقترن بالجوهر فيصير به نوعاً كالجزء المقوم له لا كالعرض الحال فيه والعدم ما يقابل الصورة فإنا متى توهمنا أن الصورة لم تكن فيجب أن يكون في الهيولى عدم الصورة‏.‏

والعدم المطلق مقابل للصورة المطلقة والعدم الخاص مقابل للصورة الخاصة‏.‏

قال‏:‏ وأول الصورة التي تسبق إلى الهيولى هي الأبعاد الثلاثة فتصير جرماً ذا طول وعرض وعمق وهي الهيولى الثانية وليست بذات كيفية‏.‏

ثم تلحقها الكيفيات الأربع التي هي الحرارة والبرودة الفاعلتان والرطوبة واليبوسة المنفعلتان فتصير الأركان والأسطقسات الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض وهي الهيولى الثالثة‏.‏

ثم تتكون منها المركبات التي تلحقها الأعراض والكون والفساد ويكون بعضها هيولى بعض‏.‏

قال‏:‏ وإنما رتبنا هذا الترتيب في العقل والوهم خاصة دون الحس وذلك أن الهيولى عندنا لم تكن معراة عن الصورة قط فلم نقدر في الوجود جوهراً مطلقاً قابلاً للأبعاد ثم لحقته الأبعاد ولا جسماً عارياً عن هذه الكيفيات ثم عرض له ذلك وإنما هو عند نظرنا هو أقدم بالطبع وأبسط في الوهم والعقل‏.‏

ثم أثبت طبيعة خامسة وراء هذه الطبائع لا تقبل الكون والفساد ولا يطرأ عليها الاستحالة والتغير وهي طبيعة السماء‏.‏

وليس يعني بالخامسة طبيعة من جنس هذه الطبائع بل معنى ذلك أن طبائعها خارجة عن هذه‏.‏

ثم هي كلها على تركيبات يختص كل تركيب خاص بطبيعة خاصة ويتحرك بحركة خاصة‏.‏

ولكل متحرك محرك مزاول ومحرك مفارق‏.‏

والمتحركات أحياء ناطقون والحيوانية والناطقية لها بمعنى آخر وإنما يحمل ذلك عليها وعلى الإنسان بالاشتراك‏.‏

فترتيب العالم كله علوية وسفلية على نظام واحد وصار النظام في الكل‏:‏ محفوظاً بعناية المبدأ الأول على أحسن ترتيب وأحكم قوام متوجهاً إلى الخير‏.‏

وترتيب الموجودات كلها في طباع الكل على موع نوع ليس على ترتيب المساواة فليس حال السباع كحال الطير ولا حالها كحال النبات ولا حال النبات كحال الحيوان‏.‏

قال‏:‏ وليس مع هذا التفاوت منقطعاً بعضها عن بعض بحيث لا ينسب بعضها إلى بعض بل هناك مع الاختلاف اتصال وإضافة جامعة للكل تجمع الكل إلى الأصل الأول الذي هو المبدأ لفيض الجود والنظام في الوجود على ما يمكن في طباع الكل أن يترتب عنه‏.‏

قال‏:‏ وترتيب الطباع في الكل كترتيب المزل الواحد من الأرباب والأحرار والعبيد والبهائم والسباع فقد جمعهم صاحب المنزل ورتب لكل واحد منهم مكاناً خاصاً وقدر له عملاً خاصاً‏.‏

ليس قد أطلق لهم أن يعملوا ما شاءوا وأحبوا فإن ذلك يؤدي إلى تشويش النظام‏.‏

فهم وإن اختلفوا في مراتبهم وانفصل بعضهم عن بعض بأشكالهم وصورهم‏:‏ منتسبون إلى مبدأ واحد صادرون عن رأيه وأمره مصرفون تحت حكمه وقدره فكذلك تجري الحال في العالم بأن يكون هناك أجزاء أول مفردة متقدمة لها أفعال مخصوصة مثل السماوات ومحركاتها ومدبراتها وما قبلها منن العقل الفعال‏.‏

وأجزاء مركبة متأخرة تجري أكثر أمورها على الاتفاق المخلوط بالطبع المسألة العاشرة في أن النظام في الكل متوجه إلى الخير والشر واقع في القدر بالعرض‏.‏

قال‏:‏ لما اقتضت الحكمة الإلهية نظام العالم على أحسن إحكام وإتقان لا لإرادة وقصد أمر في السافل حتى يقال‏:‏ إنما أبدع العقل مثلاًلغرض في السافل حتى يفيض مثلاً على السافل فيضاً بل لأمر أعلى من ذلك وهو أن ذاته أبدع ما أبدع لذاته لا لعلة ولا لغرض فوجدت الموجودات كاللوازم واللواحق ثم توجهت إلى لخير لأنها صادرة عن أصل الخير وكان المصير في كل حال إلى رأس واحد‏.‏

ثم ربما يقع شر وفساد من مصادمات في الأسباب السافلة دون العالية التي كلها خير مثل المطر الذي لم يخلق إلا خيراً ونظاماً للعالم فيتفق أن يخرب به بيت عجوز فإن وقع كان ذلك واقعاً بالعرض لا بالذات أو بأن لا يقع شر جزئي في العالم لا تقتضي الحكمة أن لا يوجد خير كلي فإن فقدان المطر أصلاً شر كلي وتخريب بيت عجوز شر جزئي والعالم للنظام الكلي لا الجزئي فالشر إذاً‏:‏ واقع في القدر بالعرض‏.‏

وقال‏:‏ إن الهيولى قد لبست الصور على درجات ومراتب وإنما يكون لكل درجة ما تحتمله في نفسها دون أن يكون في الفيض الأعلى إمساك عن بعض وإفاضة على بعض‏.‏

فالدرجة الأولى احتمالها على نحو أفضل والثانية دون ذلك‏.‏

والذي عندنا من العناصر دون الجميع لأن كل ماهية من ماهيات هذه الأشياء إنما تحتمل ما تستطيع أن تلبس من الفيض على النحو الذي هيئت له ولذلك تقع العاهات والتشويهات في الأبدان لما يلزم من ضرورة المادة الناقصة التي لا تقبل الصورة على كمالها الأول والثاني‏.‏

قال‏:‏ إنا لم نجز الأمور على هذا المنهاج ألجأتنا الضرورة إلى أن نقع في محالات فيها من قبلنا كالثنوية وغيرهم‏.‏

المسألة الحادية عشرة في كون الحركات سرمدية وأن الحوادث لم تزل‏.‏

قال‏:‏ إن صدور الفعل عن الحق الأول إنما يتأخر لا بزمان بل بحسب الذات‏.‏

والفعل ليس مسبوقاً بعدم بل هو مسبوق بذات الفاعل فقط‏.‏

ولكن القدماء لما أرادوا أن يعبروا عن العلية افتقروا إلى ذكر القبيلة وكانت القبيلة في اللفظ تتناول الزمان وكذلك في المعنى عند من لم يتدرب فأوهمت عباراتهم أن فعل الأول الحق فعل زماني وأن تقدمه تقدم زماني‏.‏

قال‏:‏ ونحن أثبتنا أن الحركات تحتاج إلى محرك غير متحرك‏.‏

ثم نقول‏:‏ الحركات لا تخلو‏:‏ إما ان تكون لم تزل أو تكون قد حدثت بعد أن لم تكن وقد كان المحرك لها موجوداً بالفعل قادراً ليس يمانعه مانع من أن تكون عنه ولا حدث حادث في حال ما أحدثها فرغبه وحمله على الفعل إذاً‏:‏ كان جميع ما يحدث إنما يحدث عنه وليس شيء غيره يعوقه أو يرغبه‏.‏

ولا يمكن أن يقال‏:‏ قد كان لا يقدر أن يكون عنه مقدور فقدر أو لم يرد فأراد أو لم يعلم فعلم فإن ذلك كله يوجب الاستحالة ويوجب أن يكون شيئاً آخر غيره هو الذي أحاله‏.‏

وإن قلنا‏:‏ إنه منعه مانع يلزم أن يكون السبب المانع أقوى والاستحالة والتغير عن المانع حركة أخرى استدعت محركاً‏.‏

وبالجملة‏:‏ كل سبب ينسب إليه الحادث في زمان حدوثه بعد جوازه في زمان قبله وبعده فإن ذلك السبب جزئي خاص أوجب حدوث تلك الحادثة التي لم تكن قبل ذلك وإلا فالإرادة الكلية والقدرة الشاملة والعلم الواسع العام‏:‏ ليس يختص بزمان دون زمان بل نسبته إلى الأزمان كلها نسبة واحدة فلا بد لكل حادث من سبب حادث ويتعالى عنه الواحد الحق الذي لا يجوز عليه التغيير والاستحالة‏.‏

قال‏:‏ وإذا كان لا بد من محرك للمحركات ومن حامل للحركات‏:‏ تبين أن المحرك سرمدي والحركات سرمدية فالمتحركات سرمدية‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن حامل الحركة وهو الجسم لم يحدث لكنه تحرك عن سكون‏:‏ وجب أن يعثر على السبب الذي يغير من السكون إلى الحركة‏.‏

فإن قلنا‏:‏ إن ذلك الجسم حدث فقد تقدم حدوث الجسم حدوث الحركة‏.‏

فقد بان‏:‏ أن الحركة والمتحرك والزمان الذي هو عاد للحركة‏:‏ أزلية سرمدية‏.‏

والحركات إما مستقيمة وإما مستديرة والاتصال لا يكون إلا للمستديرة لأن المستقيم ينقطع والاتصال أمر ضروري للأشياء الأزلية فإن الذي يسكن ليس بأزلي والزمان متصل لأنه لا يمكن أن يكون قطعاً مبتورة فيجب من ذلك أن تكون هي أزلية فيجب أن يكون محرك هذه الحركة المستديرة أيضاً أزلياً إذ لا يكون ما هو أخس علة لما هو أفضل ولا فائدة في محركات ساكنة غير محركة كالصور الأفلاطونية فلا ينبغي أن يضع هذه الطبيعة بلا فعل فتكون متعطلة غير قادرة أن تحيل وتحرك‏.‏

المسألة الثانية عشرة في كيفية تركب العناصر‏.‏

حكى فرفوريوس عنه أنه قال‏:‏ كل موجود ففعله مثل طبيعته فما كانت طبيعته بسيطة ففعله بسيط‏.‏

والله تعالى واحد بسيط ففعل الله تعالى واحد بسيط وكذلك فعله الاجتلاب إلى الوجود فإنه موجود‏.‏

لكن الجوهر لما كان وجوده بالحركة كان بقاؤه أيضاً بالحركة وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون موجوداً من ذاته بمنزلة الوجود الأول الحق لكن من التشبه بذلك الأول الحق‏.‏

وكل حركة تكون‏:‏ إما أن تكون مستقيمة أو مستديرة فالحركة المستقيمة يجب أن تكون متناهية والجوهر يتحرك في الأقطار الثلاثة التي هي‏:‏ الطول والعرض والعمق‏:‏ على خطوط مستقيمة حركة متناهية فيصير بذلك جسماً‏.‏

وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها حركة بلا نهاية ولا يسكن في وقت من الأوقات إلا أنه ليس يمكن أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة وذلك أن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه‏:‏ كالنقطة فانقسم قال‏:‏ وكل جسم يتحرك فيماس جسماً ساكناً وفي طبيعته قبول التأثير منه أحدث سخونة فيه وإذا سخن‏:‏ لطف وانحل وخف فكانت طبيعة النار تلي الفلك المتحرك‏.‏

والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل فلا يتحرك بأجمعه لكن جزء منه فيسخن دون سخونة النار وهو الهواء‏.‏

والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك له فهو بارد لسكونه ورطب لمجاورة الهواء الحار الرطب ولذلك انحل قليلاً وهو الماء‏.‏

والجسم الذي في الوسط فإنه بعد في الغاية عن الفلك ولم يستفد من حركته شيئاً ولا قبل منه تأثيراً فيبس وبرد وهو الأرض‏.‏

وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها عن بعض‏.‏

وتختلط‏:‏ يتولد عنها أجسام مركبة وهي المركبات المحسوسات التي هي‏:‏ المعادن والنبات والحيوان والإنسان‏.‏

ثم يختص بكل نوع طبيعة خاصة تقبل فيضاً خاصاً على ما قدر الباري جلت قدرته‏.‏

المسألة الثالثة عشرة في الآثار العلوية‏.‏

قال أرسطوطاليس‏:‏ الذي يتصاعد من الأجسام السفلية إلى الجو ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما‏:‏ أدخنة نارية بإسخان الشمس وغيرها‏.‏

والثاني‏:‏ أبخرة مائية فتصعد إلى الجو وقد صحبتها أجزاء أرضية فتتكاثف وتجتمع بسبب ريح أو غيرها فتصير ضباباً أو سحاباً فتصادفها برودة فتعصر ماءً وثلجاً وبرداً فتنزل إلى مركز الماء وذلك لاستحالة الأركان بعضها عن بعض فكما أن الماء يستحيل هواء فيصعد كذلك الهواء يستحيل ماء فينزل‏.‏

ثم الرياح والأدخنة إذا احتقنت في خلال السحاب واندفعت مرة سمع لها صوت وهو الرعد ويلمع من اصطكاكها وشدة صدمتها ضياء وهو البرق‏.‏

وقد يكون من الأدخنة ما تكون الهنية على مادتها أغلب فيشتعل فيصير شهاباً ثاقباً وهي الشهب‏.‏

ومنها ما يحترق في الهواء فيتحجر فينزل‏:‏ حديداً أو حجراً‏.‏

ومنها ما يحترق ناراً فيدفعها دافع فينزل صاعقة‏.‏

من المشتعلات ما يبقى فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ودارت به النار الدائرة بدوران الفلك فكان ذنباً له‏.‏

وربما كان عريضاً فرئي كأنه لحية كوكب وربما وقع صقيل الظاهر من السحاب صور اليرات وأضواؤها كما يقع على المرائي والجدران الصقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها وصفائها وكدورتها في‏:‏ هالة وقوس قزح وشموس وشهب والمجرة‏.‏

وذكر أسباب كل واحد من هذه في كتابه المعروف بالآثار العلوية والسماء والعالم وغيرهما‏.‏

المسألة الرابعة عشرة في النفس الإنسانية الناطقة واتصالها بالبدن‏.‏

قال‏:‏ النفس الإنسانية ليست بحسم ولا قوة في جسم وله في إثباتها مآخذ‏:‏ منها الاستدلال على أما الأول فقال‏:‏ لا نشك أن الحيوان يتحرك إلى جهات مختلفة حركة اختيارية إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية‏:‏ لتحركت إلى جهة واحدة لا تختلف البتة فلما تحركت إلى جهات متضادة‏:‏ علم أن حركاته اختيارية‏.‏

والإنسان مع أنه مختار في حركاته كالحيوان إلا أنه يتحرك لمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال وهو في معرفته في عاقبة كل حال‏.‏

والحيوان ليست حركاته بطبعه على هذا النهج فيجب أن يتميز الإنسان بنفس خاص كما تميز الحيوان عن سائر الموجودات بنفس خاص‏.‏

وأما الثاني وهو المعول عليه قال‏:‏ إنا لا نشك أنا نعقل ونتصور أمراً معقولاً صرفاً مثل المتصور من الإنسان أنه إنسان كلي يعم جميع أشخاص النوع ومحل هذا المعقول جوهر ليس بحسم ولا قوة في جسم أو صورة لجسم فإنه إن كان جسماً فإما أن يكون محل الصورة المعقولة منه طرفاً منه لا ينقسم أو جملته المنقسمة‏.‏

وبطل أن يكون طرفاً منه غير منقسم فإنه لو كان كذلك لكان المحل كالنقطة التي لا تميز لها في الوضع عن الخط فإن الطرف نهاية الخط والنهاية لا يكون لها نهاية أخرى وإلا تسلسل القول فيه فتكون النقط متشافعة ولكل نهاية وذلك محال‏.‏

وإن كل محل المعقول من الجسم شيئاً ينقسم‏.‏

فيجب أن ينقسم المعقول بانقسام محله ومن المعقولات ما لا ينقسم البتة فإن ما ينقسم يجب أن يكون شيئاً كالشكل والمقدار‏.‏

والإنسانية الكلية المتصورة في الذهن ليست كشكل قابل للقطع ولا كمقدار قابل للفصل‏.‏

فتبين أن النفس ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة في جسم‏.‏

المسألة الخامسة عشرة في وجه اتصالها بالبدن ووقت اتصالها‏.‏

قال‏:‏ إذا تحقق أنها ليست بجسم لم تتصل بالبدن اتصال انطباع فيه ولا حلول فيه بل اتصلت به اتصال تدبير وتصرف‏.‏

وإنما حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده قال‏:‏ لأنها لو كانت موجودة قبل وجود الأبدان لكانت متكثرة بذواتها وإما متحدة‏.‏

وبطل الأول فإن المتكثر إما أن يكون بالماهية والصورة وقد فرضناها متفقة في النوع لا اختلاف فيها فلا تكثر فيها ولا تمايز‏.‏

وإما أن تكون متكثرة من جهة النسبة إلى العنصر والمادة المتكثرة بالأمكنة والأزمنة‏.‏

وهذا محال أيضاً فإنا إذا فرضناها قبل البدن ماهية مجردة لا نسبة لها إلى مادة دون مادة وهي من حيث إنها ماهية لا اختلاف فيها وأن الأشياء التي ذواتها معان تتكثر تنوعاتها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها وإذا كانت مجردة فمحال أن يكون بينها مغايرة وكاثرة‏.‏

ولعمري إنها تبقى بعد البدن متكثرة فإن الأنفس قد وجد كل منها ذاتاً منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها وباختلاف هيئات وملكات حصلت عند الاتصال بالبدن فهي حادثة مع حدوث البدن تصيره نوعاً كسائر الفصول الذاتية وباقية بعد مفارقة البدن بعوارض معينة له‏:‏ لم توجد تلك العوارض قبل اتصالها بالبدن‏.‏

وبهذا الدليل‏:‏ فارق أستاذه‏.‏

وفارق قدماءه‏.‏

وقد وجد في أثناء كلامه ما يدل على أنه يعتقد أن النفس كانت موجودة قبل وجود الأبدان‏.‏

فحمل بعض مفسري كلامه قوله ذلك على أنه أراد به الفيض والصور الموجودة بالقوة في واهب الصور كما يقال‏:‏ إن النار موجودة في الحجر والشجر أو الإنسان موجود في النطفة والنخلة موجودة في النواة والضياء موجود في الشمس‏.‏

ومنهم من أجراه على ظاهره وحكم بالتمييز بين النفوس بالخواص التي لها وقال‏:‏ اختصت كل نفس إنسانية بخاصية لم يشاركها فيها غيرها فليست متفقة بالنوع أعني‏:‏ النوع الأخير‏.‏

ومنهم من حكم بالتمييز بالعوارض التي هي مهيأة نحوها وكما أنها تتمايز بعد الاتصال بالبدن بأنها كانت متميزة في المادة‏:‏ كذلك تتمايز بأنها ستكون متمايزة بالأبدان والصنائع والأفعال واستعداد كل نفس لصنعة خاصة أو علم خاص فتنهض هذه فصولاً ذاتية أو عوارض لازمة لوجودها‏.‏

المسألة السادسة عشرة في بقائها بعد البدن وسعادتها في العالم العقلي‏.‏

قال‏:‏ إن النفوس الإنسانية إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله سبحانه وتعالى وو صلت إلى كمالها وإنما هذا التشبه بقدر الطاقة يكون إما بحسب الاستعداد وإما بحسب الاجتهاد فإذا فارق البدن اتصل بالروحانيين وانخرط في سلك الملائكة المقربين‏.‏

ويتم له التذاذ والابتهاج‏.‏

وليس كل لذة فهي جسمانية فإن تلك اللذات نفسانية عقلية وهذه اللذة الجسمانية تنتهي إلى حد ويعرض للملتذ سآمة وكلال وضعف وقصور‏.‏

إن تعدى عن الحد المحدود بخلاف اللذات العقلية فإنها حيثما ازدادت‏:‏ ازداد الشوق والحرص والعشق‏.‏

إليها‏.‏

وكذلك القول في الآلام النفسانية فإنها تقع بالضد مما ذكرنا‏.‏

ولم يحقق المعاد إلا للأنفس ولم يثبت حشراً ولا نشراً ولا إحلالاً لهذا الرباط المحسوس من العالم ولا إبطالاً لنظامه كما ذكره القدماء‏.‏

فهذه نكت كلامه استخرجناها من مواضع مختلفة وأكثرها من شرح ثامسيطيوس وكلام الشيخ أبي على بن سينا الذي يتعصب له وينصر مذهبه ولا يقول من القدماء إلا به‏.‏

وسنذكر طريقة ابن سينا عند ذكر فلاسفة الإسلام إن شاء الله تعالى‏.‏

ونحن الآن ننقل كلمات حكمية لأصحاب أرسطوطاليس ومن نسج على منواله بعده دون الآراء العلمية إذ لا خلاف بينهم في الآراء والعقائد‏.‏

ووجدت كلمات وفصولاً للحكيم أرسطوطاليس من كتب متفرقة فنقلتها على الوجه الذي وجدت وإن كان في بعضها ما يدل على أن رأيه على خلاف ما نقله ثامسيطيوس واعتمده ابن سينا‏:‏ منها في حدوث العالم قال‏:‏ الأشياء المحمولة أعني الصور المتضادة فليس يكون أحدهما من صاحبه بل يجب أن يكون بعد صاحبه قيتعاقبان على المادة فقد بان أن الصورة تدثر وتبطل‏.‏

وإذا دثر معنى وجب أن يكون له بدء لأن الدثور غاية وهو أحد الجنبين‏:‏ يدل على أن جائياً جاء به‏.‏

فقد صح أن الكون حادث لا من شيء وأن الحامل لها غير ممتنع الذات من قبولها وحمله إياها وهي ذات بدء وغاية يدل على أن حواملها ذو بدء وغاية وأنه حادث لا من شيء ويدل على محدث لا بدء له ولا غاية لأن الدثور آخر والآخر ما كان له أول فلو كانت الجواهر والصور لم يزالا فغير جائز استحالتهما لأن الاستحالة دثور الصورة التي بها كان شيء‏.‏

وخروج الشيء من حد إلى حد ومن حال إلى حال يوجب دثور الكيفية وتردد المستحيل في الكون والفساد يدل على دثوره وحدوث أحواله يدل على ابتدائه وابتداء جزئه يدل على بدء كله وواجب إن قبل بعض ما في العالم الكون والفساد أن يكون كل العالم قابلاً له وكان له بدء يقبل الفساد وآخر يستحيل إلى كون فالبدء والغاية يدلان على مبدع‏.‏

وقد سأل بعض الدهرية أرسطوطاليس وقال‏:‏ إذا كان لم يزل ولاشيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه فقال له‏:‏ لم غير جائزة عليه لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة له من معل فوقه ولا علة فوقه وليس بمركب فتحمل ذاته العلل فلم عنه منتفية فإنما فعل ما فعل لأنه جواد فقيل‏:‏ فيجب أن يكون فاعلاً لم يزل قال‏:‏ معنى لم يزل أن لا أول وفعل يقتضي أولاً واجتماع ما لا أول له وذو أول في القول والذات محال متناقص قيل له‏:‏ فهل يبطل هذا العالم قال‏:‏ نعم قيل فإذا أبطله بطل الجود قال‏:‏ سيبطله ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد‏.‏

تم كلامه ويعزى هذا الفصل إلى سقراطيس قاله لبقراطيس وهو بكلام الماء أشبه‏.‏

ومما نقل عن أرسطوطاليس تحديده العناصر الأربعة قال‏:‏ الحار‏:‏ ما خلط بعض ذوات الجنس ببعض وفرق بين بعض ذوات الجنس من بعض‏.‏

وقال‏:‏ البارد‏:‏ ما جمع بين ذوات الجنس وغير ذوات الجنس لأن البرودة إذا جمدت الماء حتى يصير جليداً‏:‏ اشتملت على الأجناس المختلفة من الماء والنبات وغيرهما‏.‏

قال‏:‏ والرطب‏:‏ العسير الانحصار من ذاته اليسير الانحصار من ذات غيره واليابس‏:‏ اليسير الإنحصار من ذاته العسير الانحصار من ذات غيره والحدان الأولان يدلان على الفعل والآخران يدلان على الانفعال‏.‏

ونقل أرسطوطاليس عن جماعة من الفلاسفة‏:‏ أن مبادئ الأشياء هي العناصر الأربعة‏.‏

وعن بعضهم‏:‏ أن المبدأ الأول هو ظلمة وهاوية وفسره بفضاء وخلاء وعماية‏.‏

وقد أثبت قوم من النصارى تلك الظلمة وسموها‏:‏ الظلمة الخارجة‏.‏

ومما خالف أرسطو طاليس أستاذه أفلاطون‏:‏ أن أفلاطون قال‏:‏ من الناس من يكون طبعه مهيأ لشيء لا يتعداه فخالفه وقال‏:‏ إذا كان الطبع سليماً صلح لكل شيء‏.‏

وكان أفلاطون يعتقد أن النفوس الإنسانية أنواع يتهيأ كلل نوع لشيء ما لا يتعداه وأرسطوطاليس يعتقد أن النفوس الإنسانية نوع واحد وإذا تهيأ صنف لشيء‏:‏ تهيأ له كل النوع‏.‏

والله الموفق‏.‏

حكم الإسكندر الرومي وهو ذو القرنين الملك وليس هو المذكور في القرآن بل هو ابن فيلبوس الملك‏.‏

وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر‏.‏

سلمه أبوه إلى أرسطوطاليس الحكيم المقيم بمدينة إينياس فاقام عنده خمس سنين يتعلم منه الحكمة والأدب حتى بلغ أحسن المبالغ ونال من الفلسفة ما لم ينله سائر تلاميذه فاسترده والده حين استشعر من نفسه علة خاف منها فلما وصل إليه جدد العهد له وأقبل عليه واستولت عليه العلة فتوفي منها واستقل الإسكندر بأعباء الملك‏.‏

فمن حكمه أنه سأله معلمه وهو في المكتب إن أفضي إليك هذا الأمر يوماً ما فأين تضعني قال‏:‏ بحيث تضعك طاعتك في ذلك الوقت‏.‏

وقيل له‏:‏ إنك تعظم مؤد بك أكثر تعظيمك والدك‏!‏ قال‏:‏ لأن أبي كان سبب حياتي الفانية ومؤدبي هو سبب حياتي الباقية وفي رواية‏:‏ لأن أبي كان سبب حياتي ومؤدبي سبب تجويد حياتي وفي رواية‏:‏ لأن أبي كان سبب كوني ومؤدبي كان سبب نطقي‏.‏

وقال أبو زكريا الصيمري‏:‏ لو قيل لي هذا لقلت‏:‏ لأن أبي كان قضى وطراً بالطبيعة التي اختلفت بالكون والفساد ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون ولا فساد‏.‏

وجلس الإسكندر يوماً فلم يسأله أحد حاجة فقال لأصحابه‏:‏ والله ما أعد هذا اليوم من أيام عمري في ملكي قيل‏:‏ ولم أيها الملك قال لأن الملك هذا اليوم من أيام عمري في ملكي قيل‏:‏ ولم أيها الملك قال لأن الملك لا يوجد التلذذ به إلا بالجود على السائل وإغاثة الملهوف ومكافأة المحسن وإلا بإنالة الراغب وإسعاف الطالب‏.‏

وكتب إليه أرسطوطاليس في كلام طويل‏.‏

اجمع في سياستك بين‏:‏ بدار لا حدة فيه وريث لا غفلة معه وامزج كل شكل بشكله حتى يزداد قوة وعزة عن ضده حتى يتميز لك بصورته وصن وعدك عن الخلف فإنه شين وشب وعيدك بالعفو فإنه زين وكن عبداً للحق فإن عبد الحق حر وليكن وكدك الإحسان إلى جميع الخلق ومن الإحسان وضع الإساءة في موضعها‏.‏

وأظهر لأهلك أنك منهم ولا صحابك أنك بهم ولرعيتك أنك لهم‏.‏

وتشاور الحكماء في أن يسجدوا له إجلالاً وتعظيماً فقال‏:‏ لا سجود لغير بارئ الكل بل يحق له السجود على من كساه بهجة الفضائل‏.‏

وأغلظ له رجل من أهل أثينية فقام إليه بعض قواده ليقابله بالواجب فقال له الإسكندر‏:‏ دعه‏:‏ لا تنحط إلى دناءته ولكن ارفعه إلى شرفك‏.‏

وقال الإسكندر‏:‏ من كنت تحب الحياة لأجله فلا تستعظم الموت بسببه‏.‏

وقيل له‏:‏ إن روشنك امرأتك‏:‏ بنت دارا الملك وهي من أجمل النساء فلو قربتها إلى نفسك‏!‏ قال‏:‏ أكره أن يقال‏:‏ غلب الإسكندر دارا وغلبت روشنك الإسكندر‏.‏

وقال‏:‏ من الواجب على أهل الحكمة أن يسرعوا إلى قبول اعتذار المذنبين وأن يبطئوا عن العقوبة‏.‏

وقال‏:‏ سلطان العقل على باطن العاقل أشد تحكماً من سلطان السيف على ظاهر الأحمق‏.‏

وقال‏:‏ ليس الموت بألم للنفس بل للجسد‏.‏

وقال‏:‏ إن نظم جميع ما في الأرض شبيهة بالنظم السماوي لأنها أمثال له بحق‏.‏

وقال‏:‏ العقل لا يألم في طلب معرفة الأشياء بل الجسد يألم ويسأم‏.‏

وقال‏:‏ النظر في المرآة يرى رسم الوجه وفي أقاويل الحكماء يرى رسم النفس‏.‏

ووجدت في عضده صحيفة فيها‏:‏ قلة الاسترسال إلى الدنيا أسلم والاتكال على القدر أروح وعند حسن الظن تقر العين ولا ينفع مما هو واقع التوقي‏.‏

وقال بعضهم عنه‏:‏ إنه أخذ يوماً تفاحة فقال‏:‏ ما ألطف قبول هذه الهيولى الشخصية لصورتها وانفعالها لما تؤثر الطبيعة فيها من الأوضاع الروحانية‏:‏ من تركيب بسيط وبسط مركب حسب تمثيل النفس لها كل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل‏.‏

ولو قيل‏:‏ وألطف منها قبول هذه النفس الإنسانية لصورتها العقلية وانفعالها لما تؤثر النفس الكلية فيها من العلوم الروحانية‏:‏ من تركيب بسيط وبسط مركب حسب تمثيل العقل لها وكل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل‏.‏

وسأله أطوسايس الكلي أن يعطيه ثلاث حبال فقال الإسكندر‏:‏ ليست هذه عطية ملك فقال الكلبي‏:‏ أعطني مائة رطل من الذهب فقال‏:‏ ولا هذه مسألة كلبي‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كنا عند شبر المنجم إذا وصل إلينا الإسكندر الملك فأقامنا في جوف الليل وأدخلنا بستاناً له ليرينا النجوم فجعل شبر يشير إليها بيده ويسير حتى سقط في بئر فقال‏:‏ من تعاطى علم ما فوقه بلى بجهل ما تحته‏.‏

وقال السعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه لأنا إذا عرفناه أطلنا يومه وأطرنا نومه‏.‏

وقال استقلل كثير ما تعطى واستكثر قليل ما تأخذ فإن قرة عين الكريم فيما يعطي ومسرة اللئيم فيما يأخذ‏.‏

ولا تجعل الشحيح أميناً ولا الكذاب صفياً فإنه لا عفة مع شح ولا أمانة مع كذب‏.‏

وقال‏:‏ الظفر‏:‏ بالحزم والحزم‏:‏ بإحالة الرأي وإحالة الرأي‏:‏ بتحصين الأسرار‏.‏

ولما توفي الإسكندر برومية المدائن‏:‏ وضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وكان قد عاش اثنتين وثلاثين سنة وملك اثنتي عشرة سنة وندب جماعة من الحكماء لندبته‏.‏

فقال بليموس‏:‏ هذا يوم عظيم العبرة‏:‏ أقبل من شره ما كان مدبراً وأدبر من خيره ما كان مقبلاً فمن كان باكياً على من زال ملكه فليبكه‏.‏

وقال ميلاطوس‏:‏ خرجنا إلى الدنيا جاهلين وأقمنا فيها غافلين وفارقناها كارهين‏.‏

وقال زينون الأصغر‏:‏ يا عظيم الشأن‏!‏ ما كنت إلا ظل سحاب اضمحل لما أظل فما تحس لملكك أثراً ولا نعرف له خيراً‏.‏

وقال أفلاطون الثاني‏:‏ أيها الساعي المغتصب‏!‏ جمعت ما خذلك وتوليت ما تولى عنك فلزمتك أوزاره وعاد على غيرك مهنئوه وثماره‏.‏

وقال فوطس‏:‏ ألا تتعجبون ممن لم يعظنا اختياراً حتى وعظنا بنفسه اضطراراً‏!‏‏.‏

وقال مسطورس‏:‏ قد كنا ب الأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على القول واليوم نقدر على القول فهل نقدر على الاستماع‏.‏

وقال ثاون‏:‏ انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى‏.‏

وقال سوس‏:‏ كم قد أمات هذا الشخص لئلا يموت فمات فكيف لم يدفع عن نفسه بالموت‏.‏

وقال حكيم‏:‏ طوى الأرض العريضة فلم يقنع حتى طوى منها في ذراعين‏.‏

وقال آخر‏:‏ ما سافر الإسكندر سفراً بلا أعوان ولا آلة ولا عدة‏.‏

غير سفره هذا‏.‏

وقال آخر‏:‏ ما ارغبنا فيما فارقت وأغفلنا عما عاينت‏.‏

وقال آخر‏:‏ لم يؤدينا بكلامه كما أدبنا بسكوته‏.‏

وقال آخر‏:‏ من يرى هذا الشخص فليتق وليعلم أن الديون هكذا قضاؤها‏.‏

وقال آخر‏:‏ قد كان بالأمس طلعته علينا حياة واليوم النظر إليه سقيم‏.‏

وقال آخر‏:‏ قد كان يسأل عما قبله ولا يسال عما بعده‏.‏

وقال آخر‏:‏ الآن تضطرب الأقاليم لأن مسكنها قد سكن‏.‏

وقال آخر‏:‏ الآن وقت الانصراف لأن الأشخاص يتوجهون من دار إلى دار والله تعالى يبقى ولا يفنى‏.‏

حكم ديوجانس الكلبي وكان حكيماً فاضلاً متقشفاً لا يقتني شيئاً ولا يأوي إلى منزل وكأنه من قدرية الفلاسفة لما يوجد في مدارج كلامه من الميل إلى القدر‏.‏

قال‏:‏ ليس الله تعالى علة الشرور بل الله تعالى علة الخيرات والفضائل والجود والعقل‏.‏

جعلها بين خلقه فمن كسبها وتمسك بها نالها لأنه لا يدرك الخيرات إلا بها‏.‏

وسأله الإسكندر يوماً فقال‏:‏ بأي شيء يكتسب الثواب قال‏:‏ بأفعال الخيرات وإنك لتقدر أيها الملك أن تكتسب في يوم واحد ما لا تقدر الرعية أن تكسبه في دهرها‏.‏

وسأله عصبة من أهل الجهل‏:‏ ما غذاؤك قال‏:‏ ما عفتم يعني الحكمة‏.‏

قالوا‏:‏ فما عفت قال‏:‏ ما استطبتم يعني الجهل‏.‏

قالوا‏:‏ كم عبد لك قال‏:‏ أربابكم يعني‏:‏ الغضب والشهوة والأخلاق الرديئة الناشئة منهما‏.‏

وقالوا له يوماً‏:‏ ما أقبح صورتك‏!‏ قال‏:‏ لم أملك الخلقة الذميمة فألام عليها‏.‏

ولا ملكتم الخلقة الحسنة فتحمدوا عليها وأما ما صار في ملكي وأتى عليه تدبيري فقد استكملت تزيينه وتحسينه بغاية الطوق وقاصية الجهد واستكملتم شين ما في ملككم‏.‏

قالوا‏:‏ فما الذي في الملك من التزيين والتهجين قال‏:‏ أما التزيين فعمارة الذهن بالحكمة‏.‏

وجلاء العقل بالأدب وقمع الشهوة بالعفاف وردع الغضب بالحلم وقطع الحرص بالقنوع وإماتة الحسد بالزهد وتذليل المرح بالسكون ورياضة النفس حتى تصير مطية قد ارتاضت فتصرفت حيث صرفها فارسها في طلب العليات وهجر الدنيات‏.‏

ومن التهجين‏:‏ تعطيل الذهن من الحكمة وتوسيخ العقل بضياع الأدب وإثارة الشهوة بأتباع الهوى وإضرام الغضب بالانتقام وإمداد الحرص بالطلب‏.‏

وقدم إليه رجل طعاماً وقال له‏:‏ استكثر منه فقال‏:‏ عليك بتقديم الأكل وعلينا باستعمال العدل‏.‏

وقال زمام العافية بيد البلاء ورأس السلامة تحت جناح العطب وباب الأمن مستور بالخوف فلا تكون في حال من هذه الثلاث غير متوقع لضدها‏.‏

وقيل له‏:‏ مالك لا تغضب قال‏:‏ أما غضب الإنسانية فقد أغضبه وأما غضب البهيمة فقد تركته لترك الشهوة البهيمة‏.‏

واستدعاه الملك الإسكندر يوماً إلى مجلسه فقال للرسول‏:‏ قل له‏:‏ إن الذي منعك من المصير إلينا هو الذي منعنا من المصير إليك منعك استغناؤك عني بسلطانك ومنعني استغنائي عنك بقناعتي‏.‏

وعابته امرأة يونانية بقبح الوجه ودمامة الصورة فقال‏:‏ منظر الرجال بعد المخبر ومخبر النساء بعد المنظر فخجلت وتابت‏.‏

ووقف عليها الإسكندر يوماً فقال له‏:‏ ما تخافني قال‏:‏ أنت خير أم شرير قال‏:‏ بل خير قال‏:‏ فما لخوفي من الخير معنى بل يجب على رجاؤه‏.‏

وكان لأهل مدينة من بلاد اليونان صاحب جيش جبان وطبيب لم يعالج أداً إلا قتله فظهر عليهم عدو ففزعوا إليه فقال‏:‏ اجعلوا طبيبكم صاحب لقاء العدو واجعلوا صاحب جيشكم طبيب‏.‏

وقال‏:‏ اعلم أنك ميت لا محالة فاجتهد أن تكون حياً بعد موتك لئلا تكون لميتتك ميتة ثانية‏.‏

وقال كما أن الأجسام تعظم في العين في اليوم الضباب كذلك تعظم الذنوب عند الإنسان في حال الغضب‏.‏

وسئل عن العشق فقال‏:‏ هو اختيار صادف نفساً فارغة‏.‏

ورأى غلاماً معه سراج فقال له‏:‏ تعلم من أين تجيء هذه النار فقال له الغلام‏:‏ إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء فأعياه وأفحمه بعد أن لم يكن يقوى عليه أحد‏.‏

ورأى امرأة قد حملها الماء فقال‏:‏ على هذا المعنى جرى المثل‏:‏ دع الشر يغسله الشر‏.‏

ورأى امرأة تحمل ناراً فقال‏:‏ نار على نار وحامل شر من محمول‏.‏

ورأى امرأة متزينة في ملعب لم تخرج لترى ولكن لتري‏.‏

ورأى نساءً يتشاورن فقال‏:‏ على هذا جرى المثل‏:‏ هو ذا الثعبان يستقرض من الأفاعي سماً‏.‏

ورأى جارية تتعلم الكتابة فقال‏:‏ يسقي هذا السهم سماً ليرمى به يوماً ما‏.‏

ورأى امرأة ضاحكة فقال‏:‏ لو كنت تدركين الموت لما كنت ضاحكة أبداً‏.‏

وقال للاسكندر يوماً وكان يقربه ويدنيه ويأنس بكلامه‏:‏ أيها الملك‏!‏ قد آمنت بالفقر فليكن غناك اقتناء الحمد وابتغاء المجد‏.‏

حكم الشيخ اليوناني وله رموز وأمثال‏.‏

منها قوله‏:‏ إن أمك رءوم لكنها فقيرة رعناء وإن أباك لحدث لكنه جواد مقدر يعني بالأم الهيولى وبالأب الصورة وبالرءوم انقيادها وبالفقر احتياجها إلى الصورة وبالرعونة قلة ثباتها على ما تحصل عليه وأما حداثة الصورة‏:‏ أي هي مشرقة لك بملابسة الهيولى وأما جودها‏:‏ أي النقص لا يعتريها من قبل ذاتها فإنها جواد لكن من قبل قبول الهيولى فإنها إنما تقبل على تقديرها‏.‏

وهذا ما فسر به رمزه ولغزه‏.‏

وحمل الأم على الهيولى صحيح مطابق للمعنى وليس حمل الأب على الصورة بذلك الوضوح بل حمله على العقل الفعال الجواد الواهب للصور على قدر استعدادات القوابل أظهر‏.‏

وقال‏:‏ لك نسبان‏:‏ نسب إلى أبيك ونسب إلى أمك‏.‏

أنت بأحدهما أشرف وبالآخر أوضع فانتسب في ظاهرك وباطنك إلى من أنت به أشرف وتبرأ في ظاهرك وباطنك ممن أنت فيه أوضع فإن الولد الفسل يحب أمه أكثر مما يحب أباه وذلك دليل وذلك دليل على دخل العرق وفساد المحتد‏.‏

قيل‏:‏ أراد بذلك‏:‏ الهيولى والصورة أو البدن والنفس أو الهيولى والعقل الفعال‏.‏

وقال‏:‏ قد ارتفع إليك خصمان منك يتنازعان فيك‏:‏ أحدهما محق والآخر مبطل فاحذر أن تقضي بينهما بغير الحق فتهلك أنت‏.‏

والخصمان‏:‏ أحدهما العقل والثاني الطبيعة‏.‏

وقال‏:‏ كما أن البدن الخالي من النفس يفوح منه نتن الجيفة كذلك النفس الخالية من الأدب يحس نقصها بالكلام والأفعال‏.‏

وقال‏:‏ الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر‏.‏

وقال أبو سليمان السجزي مفهوم هذا الإطلاق أن كل ما هو عندنا بالحس ها هنا فهو بالعقل لنا هناك‏.‏

إلا أن الذي عندنا ظل ذاك ولأن من شاء الظل أنه كما يريك الشيء الذي هو ظله مرة فاضلاً عما هو عليه ومرة قالصاً عما هو به ومرة على قدره‏.‏

عرض الحسبان والتوهم وصارا مزاحمين لليقين والتحقيق فينبغي أن تكون عنايتنا بطلب البقاء الأبدي والوجود السرمدي أتم وأظهر وأبقى وأبلغ فبالحق‏:‏ ما كان الغائب طي الشاهد وبتصفح هذا الشاهد يصح ذلك الغائب‏.‏

وقال الشيخ اليوناني‏:‏ النفس جوهر كريم شريف يشبه دائرة قد دارت على مركزها غير أنها دائرة لا بعد لها ومركزها هو العقل وكذلك العقل هو كدائرة قد استدارت على مركزها وهو الخير الأول المحض‏.‏

غير أن النفس والعقل وإن كانا دائرتين لكن دائرة العقل لا تتحرك أبداً بل هي ساكنة ذاتية شبيهة بمركزها وأما دائرة النفس فإنها تتحرك على مركزها وهو العقل حركة الاستكمال‏.‏

على أن دائرة العقل وإن كانت دائرة شبيهة بمركزها لكنها تتحرك حركة الاشتياق لأنها تشتاق إلى مركزها وهو الخير الأول‏.‏

وأما دائرة العالم السفلى فإنها تدور حول النفس وإليها تشتاق وإنما تتحرك بهذه الحركة الذاتية شوقاً إلى النفس كشوق النفس إلى العقل وشوفق العقل إلى الخير المحض الأول ولأن دائرة هذا العالم جرم والجرم يشتاق إلى الشيء الخارج منه ويحرص على أن يصير إليه فيعانقه فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة أن يصير إليه فيعانقه فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة لأنه يطلب النفس من جميع النواحي لينالها فيستريح إليها ويسكن عندها‏.‏

وقال‏:‏ ليس للمبدع الأول صورة ولا حلية مثل صور الأشياء العالية ولا مثل صور الأشياء السافلة ولا له قوة مثل قواها لكنه فوق كل صورة وحلية وقوة لأنه مبدعها بتوسط العقل‏.‏

وقال‏:‏ المبدع الحق ليس شيئاً من الأشياء وهو جميع الأشياء لأن الأشياء منه وقد صدق الأفاضل الأوائل في قولهم‏:‏ مالك الأشياء كلها هو الأشياء كلها إذ هو علة كونها بآنيته فقط وعلة شوقها إليه‏.‏

وهو خلاف الأشياء كلها وليس فيه شئ مما أبدعه ولا يشبه شيئاً منه ولو كان كذلك لما كان علة الأشياء كلها وإذا كان العقل واحداً من الأشياء فليس فيه عقل ولا صورة ولا حلية‏.‏

أبدع الأشياء بآنيته فقط وبآنيته يعلمها ويحفظها ويدبرها‏.‏

لا بصفة من الصفات وإنما وصفناه بالحسنات والفضائل لأنه علتها وأنه الذي جعلها في الصور فهو مبدعها‏.‏

قال‏:‏ وإنما تفاضلت الجواهر العالية العقلية لاختلاف قبولها من النور الأول جل وعز فلذلك صارت ذوات مراتب شتى‏:‏ فمنها ما هو أول في المرتبة ومنها ما هو ثان ومنها ما هو ثالث فاختلفت الأشياء بالمراتب والفصول لا بالمواضع والأماكن وكذلك الحواس تختلف بأماكنها وقال‏:‏ المبدع ليس بمتناه لا كأنه جثة بسيطة وإنما عظم جوهره بالقوة والقدرة لا بالكمية والمقدار فليس للأول صورة ولا حلية ولا شكل فلذلك صار محبوباً معشوقاً تشتاقه الصور العالية والسافلة وإنما اشتاقت إليه صور جميع الأشياء لأنه أبدعها وكساها من وجوده حلية الوجود‏.‏

وهو قديم دائم على حاله لا يتغير والعاشق يحرص على أن يصير إليه ويكون معه وللمعشوق الأول عشاق كثيرون وقد يفيض عليهم كلهم من نوره من غير أن ينقص منه شيء لأنه ثابت قائم بذاته لا يتحرك‏.‏

وأما المنطق الجزئي فإنه لا يعرف الشيء إلا معرفة جزئية وشوق العقل الأول إلى المبدع الأول أشد من شوق سائر الأشياء لأن الأشياء كلها تحته وإذا اشتاق إليه العقل لم يقل للعقل لم صرت مشتاقاً إلى الأول إذ العشق لا علة له‏.‏

وأما المنطق الذي يختص بالنفس قيفحص عن ذلك ويقول‏:‏ إن الأول هو المبدع الحق وهو الذي لا صورة له وهو مبدع الصور فالصور كلها تحتاج إليه وتشتاق إليه وذلك أن كل صورة تطلب مصورها ة تحن إليه‏.‏

وقال‏:‏ إن الفاعل الأول أبدع الأشياء كلها بغاية الحكمة‏.‏

لا يقدر أحد أن ينال علل كونها ولم كانت على الحال التي هي الآن عليها ولا أن يعرفها كنه معرفتها ولم صارت الأرض في الوسط ولم كانت مستديرة ولم تكن مستطيلة ولا منحرفة إلا أن يقول‏:‏ إن الباري صيرها كذلك وإنما كانت بغاية الحكمة الواسعة لكل حكمة‏.‏

وكل فاعل يفعل بروية وفكرة لا بآنيته فقط بل يفصل فيه فلذلك يكون فعله لا بغاية الثقافة والإحكام‏.‏

والفاعل الأول لا يحتاج في إبداع الأشياء إلى روية وفكر وذلك أنه ينال العلل بلا قياس بل يبدع الأشياء ويعلم عللها قبل الروية والفكر‏.‏

والعلل والبرهان والعلم والقنوع‏.‏

و سائر ما أشبه ذلك‏:‏ إنما كانت أجزاء وهو الذي أبدعها وكيف يستعين بها وهي لم تكن بعد‏!‏‏.‏

حكم ثاوفرسطيس كان هذا الرجل من كبار تلامذة أرسطوطاليس وكبار أصحابه واستخلفه على كرسي حكمته بعد وفاته وكانت المتفلسفة في عهده تختلف إليه وتقتبس منه‏.‏

وله كتب الشروح الكثيرة والتصانيف المعتبرة وبالخصوص في الموسيقات‏.‏

فمما يؤثر عنه أنه قال‏:‏ الإلهية لا تتحرك ومعناه لا تتغير ولا تتبدل‏:‏ لا في الذات ولا سنة الأفعال‏.‏

وقال‏:‏ السماء مسكن الكواكب والأرض مسكن الناس على أنهم مثل وشبه لما في السماء فهم الآباء والمدبرون ولهم نفوس وعقول مميزة ليس لها أنفس نباتية فلذلك لا تقبل الزيادة ولا النقصان‏.‏

وقال‏:‏ الغناء فضيلة في المنطق أشكلت على النفس وقصرت عن تبيين كنهها فأبرزتها لحونا وأثارت بها شجونا وأضمرت في عرضها فنونا وفتونا‏.‏

وقال‏:‏ الغناء شئ يخص النفس دون الجسد فيشغلها عن مصالحها‏.‏

كما أن لذة المأكول والمشروب شيء يخص الجسم دون النفس‏.‏

وقال‏:‏ إن النفوس إلى اللحون إذا كانت محجبة أشد إصغاء منها إلى ما قد تبين لها وظهر معناه عندها‏.‏

وقال‏:‏ إن العقل نحوان‏:‏ أحدهما مطبوع والآخر مسموع فالمطبوع منه كالأرض والمسموع منه كالبذر والماء فلا يخلص للعقل المطبوع عمل دون أن يرد عليه العقل المسموع فينبهه من نومه ويطلقه من وثاقه ويقلقه من مكانه كما يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض‏.‏

وقال‏:‏ الحكمة غنى النفس والمال غنى البدن وطلب غنى النفس أولى لأنها إذا غنيت بقيت والبدن إذا غني فنى وغنى النفس ممدود وغنى البدن محدود‏.‏

وقال‏:‏ ينبغي للعاقل أن يداري الزمان مداراة رجل لا يسبح في الماء الجاري إذا وقع‏.‏

وقال لا يغبطن بسلطان من غير عدل ولا بغنى من غير حسن تدبير ولا ببلاغة من غير صدق منطق ولا بجود في غير إصابة موضع ولا بأدب من غير أصالة رأي ولا بحسن عمل في غير حينه‏.‏

شبه برقلس في قدم العالم إن القول في قدم العالم وأزلية الحركات بعد إثبات الصانع والقول بالعلة الأولى‏:‏ إنما شهر بعد أرسطوطاليس لأنه خالف القدماء صريحاً وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهاناً فنسج على منواله من كان من تلامذته وصرحوا القول فيه مثل الأسكندر الإفروديسي وثامسطيوس وفورفوريوس‏.‏

وصنف فورقلس المنتسب إلى أفلاطونفي هذه المسألة كتاباً وأورد فيه هذه الشبه وإلا فالقدماء إنما أبدوا فيه ما نقلناه سالفاً‏.‏

الشبهة الأولى‏:‏ قال‏:‏ إن الباري تعالى جواد بذاته وعلة وجود العالم جوده وجوده قديم لم يزل فيلزم أن يكون وجود العالم قديماً لم يزل‏.‏

قال‏:‏ ولا يجوز أن يكون مرة جواداً ومرة غير جواد فإنه يوجب التغير في ذاته فهو جواد لذاته لم يزل‏.‏

قال‏:‏ ولا مانع من فيض جوده إذ لو كان مانع لما كان من ذاته بل من غيره وليس لواجب الوجود لذاته حامل على شيء ولا مانع من شيء‏.‏

الشبهة الثانية‏:‏ قال‏:‏ ليس يخلو الصانع من أن يكون لم يزل صانعاً بالفعل أو لم يزل صانعاً بالقوة فإن كان الأول فالمصنوع معلول لم يزل وإن كان الثاني فما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج ومخرج الشيء من القوة إلى الفعل غير ذات الشيء فيجب أن يكون له مخرج من خارج يؤثر فيه وذلك ينافي كونه صانعاً مطلقاً لا يتغير ولا يتأثر‏.‏

الشبهة الثالثة‏:‏ قال‏:‏ كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها لا من جهة الانتقال من غير فعل إلى فعل وكل علة من جهة ذاتها فمعلومها من جهة ذاتها وإذا كانت ذاتها لم تزل فمعلومها لم يزل‏.‏

الشبهة الرابعة‏:‏ قال‏:‏ إن الزمان لا يكون موجوداً إلا مع الفلك ولا الفلك إلا مع الزمان لأن الزمان هو العاد لحركات الفلك‏.‏

ثم لا يجوز أن يقال متى وقبل إلا حين يكون الزمان ومتى وقبل أبدى فالزمان أبدى فحركات الفلك أبدية فالفلك أبدى‏.‏

الشبهة الخامسة‏:‏ قال‏:‏ إن العالم حسن النظام كامل القوام وصانعه جواد خير ولا ينقض الجيد الحسن إلا شرير وصانعه ليس بشرير وليس يقدر على نقضه غيره فليس ينتقض أبداً وما لا ينتقض أبداً كان سرمداً‏.‏

الشبهة السادسة‏:‏ قال‏:‏ لما كان الكائن لا يفسد إلا بشيء غريب يعرض له ولم يكن شيء غريب عن العالم خارجاً منه يجوز أن يعرض فيفسد‏:‏ ثبت أنه لا يفسد وما لا يتطرق إليه الشبهة السابعة‏:‏ قال‏:‏ إن الأشياء التي هي في المكان الطبيعي لا تتغير ولا تتكون ولا تفسد وإنما تتغير وتتكون وتفسد إذا كانت في أماكن غريبة فتتجاذب إلى أماكنها كالنار التي في أجسادنا تحاول الانفصال إلى مركزها فينحل الرباط فيفسد إذ الكون والفساد إنما يتطرق إلى المركبات لا إلى البسائط التي هي أركان في أماكنها‏.‏

ولكنها هي بحالة واحدة وما هو بحال واحدة فهو أزلي‏.‏

الشبهة الثامنة‏:‏ قال‏:‏ العقل والنفس والأفلاك تتحرك على الاستدارة والطبائع تتحرك إما عن الوسط وإما إلى الوسط على الاستقامة وإذا كان كذلك كان التفاسد في العناصر إنما هو لتضاد حركاتها والحركة الدورية لا ضد لها فلم يقع فيها فساد‏.‏

قال‏:‏ وكليات العناصر إنما تتحرك على استدارة وإن كانت الأجزاء منها تتحرك على الاستقامة فالفلك وكليات العناصر لا تفسد وإذا لم يجز أن يفسد العالم لم يجز أن يتكون‏.‏

وهذه الشبهات هي التي يمكن أن يقال عليها فتنقص وفي كل واحدة منها نوع مغالطة وأكثرها تحكمات‏.‏

وقد أقرت لها كتاباً أوردت فيه‏:‏ شبهات أرسطوطاليس وهذه وتقريرات أبي علي ابن سينا ونقضتها على قوانين منطقية‏.‏

فليطلب ذلك‏.‏

ومن المتعصبين لبرقلس من مهد له عذرا في ذكر هذه الشبهات وقال‏:‏ إنه كان يناطق الناس وكان أهل زمانه الذين يناطقونه جسمانيين وإنما دعاه إلى ذكر هذه الأقوال مقاومتهم إياه فخرج من طريق الحكمة والفلسفة من هذه الجهة لأن من الواجب على الحكيم أن يظهر العلم على طرق كثيرة يتصرف فيها كل ناظر بحسب نظره ويستفيد منها بحسب فكره واستعداده فلا يجد على قوله مسلخاً ولا يصيب مقالاً ولا مطعناً لأن برقلس لما كان يقول بدهر هذا العالم وإنه باق لا يدثر وضع كتاباً في هذا المعنى فطالعه من لم يعرف طريقته ففهموا منه جسمانية قوله دون روحانيته فنقضوه على مذهب الدهرية‏.‏

وفي هذا الكتاب يقول‏:‏ لما اتصلت العوالم بعضها ببعض وحدثت القوى الواصلة فيها وحدثت المركبات من العناصر‏:‏ حدثت قشور واستنبطت لبوب فالقشور داثرة واللبوب قائمة دائمة لا يجوز الفساد عليها لأنها بسيطة وحيدة القوى فانقسم العالم إلى عالمين‏:‏ عالم الصفوة واللب وعالم الكدورة والقشر فاتصل بعضه ببعض وكان آخر هذا العالم من بدء ذلك العالم فمن وجه‏:‏ لم يكن بينهما فرق فلم يكن هذا العالم داثراً إذ كان متصلاً بما ليس يدثر ومن وجه‏:‏ دثرت القشور وزالت الكدرة وكيف تكون القشور غير داثرة ولا مضمحلة وما لم تزل القشور باقية كانت اللبوب خافية‏!‏ وأيضاً‏:‏ فإن هذا العالم مركب والعالم الأعلى بسيط وكل مركب ينحل حتى يرجع إلى البسيط الذي تركب منه وكل بسيط باق دائماً غير مضمحل ولا متغير‏.‏

قال الذي يذب عن برقلس‏:‏ هذا الذي نقل عنه هو المنقول عن مثله بل الذي أضاف إليه هذا القول الأول لا يخلو من أحد أمرين‏:‏ إما أنه لم يقف على مرامه للعلة التي ذكرنا فيما سلف وإما لأنه كان محسوداً عند أهل زمانه لكونه بسيط الفكر واسع النظر ساير القوى وكانوا أولئك أصحاب أوهام وخيالات فإنه يقول في موضع من كتابه‏:‏ إن الأوائل منها تكونت العوالم وهي باقية لا تدثر ولا تضمحل وهي لازمة الدهر ماسكة له إلا أنها من أول لا يوصف بصفة ولا يدرك بنعت ونطق لأن صور الأشياء كلها منه وتحته وهي الغاية والمنتهى التي ليس فوقها جوهر هو أعظم منها إلا الأول الواحد وهو الأحد الذي قوته أخرجت هذه الأوائل وقدرته أبدعت هذه المبادئ‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن الحق لا يحتاج إلى أن يعرف ذاته لأنه حق حقاً بلا حق وكل حق حقاً فهو تحته إنما هو حق حقاً إذ حققه الموجب له الحق فالحق هو الجوهر الممد للطباع الحياة والبقاء وهو أفاد هذا العالم بدءاً وبقاء بعد دثور قشوره وزكي البسيط الباطن من الدنس الذي كان فيه قد علق فيه وقال‏:‏ إن هذا العالم إذا اضمحلت قشوره وذهب دنسه وصار بسيطاً روحانياً بقي بما فيه من الجواهر الصافية النورانية في حد المراتب الروحانية مثل العوالم العلوية التي بلا نهاية وكان هذا واحداً منها وبقي جوهر كل قشر ودنس وخبث ويكون له أهل يلبسه لأنه غير جائز أن تكون الأنفس الطاهرة التي لا تلبس القشور والأدناس مع الأنفس الكثيرة القشور في عالم واحد وإنما يذهب من هذا العالم ما ليس من جهة المتوسطات الروحانية وما كان القشر والدنس عليه أغلب فأما ما كان من الباري تعالى بلا متوسط أو كان من متوسط بلا قشر‏:‏ فإنه لا يضمحل‏.‏

قال‏:‏ وإنما يدخل القشر على الشيء من غير المتوسطات فيدخل عليه بالعرض لا بالذات وذلك إذا كثرت المتوسطات وبعد الشيء عن الإبداع الأول لأنه حيثما قلت المتوسطات في الشيء‏:‏ كان أنور وأقل قشوراً ودنساً وكلما قلت القشور والدنس كانت الجواهر أصفى والأشياء أبقى‏.‏

ومما ينقل عن برقلس أنه قال‏:‏ إن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها‏:‏ أجناسها وأنواعها وأشخاصها‏.‏

وخالف بذلك أرسطوطاليس فإنه قال‏:‏ يعلم أجناسها وأنواعها دون أخاصها الكائنة الفاسدة فإن علمه يتعلق بالكليات دون الجزئيات كما ذكرنا‏.‏

ومما ينقل عنه في قدم العالم قوله‏:‏ لن يتوهم حدوث العالم إلا بعد أن يتوهم أنه لم يكن فأبدعه الباري تعالى في الحالة التي لم يكن‏.‏

وفي الحالة التي لم يكن لا يخلو من حالات ثلاث‏:‏ إما أن الباري لم يكن قادراً فصار قادراً وذلك محال لأنه قادر لم يزل وإما أنه لم يرد فأراد وذلك محال أيضاً لأنه مريد لم يزل وإما أنه لم تقتض الحكمة وجوده وذلك محال أيضاً لأن الوجود أشرف من العدم على الإطلاق‏.‏

فإذا بطلت هذه الجهات الثلاث‏:‏ تشابهاً في الصفة الخاصة وهي القدم على أصل المتكلم وكان القدم بالذات له دون غيره وإن كانا معا في الوجود‏.‏

والله الموفق‏.‏

رأي ثامسطيوس وهو الشارح لكلام الحكيم أرسطوطاليس وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشارته ورموزه وهو على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذكرنا من إثبات العلة الأولى واختار من المذاهب في المبادئ قول من قال‏:‏ إن المبادئ ثلاثة‏:‏ الصورة والهيولي والعدم وفرق بين العدم المطلق والعدم الخاص فإن عدم صورة بعينها عن مادة تقبلها مثل عدم السيفية عن الحديد ليس كعدم السيفية عن الصوف فإن هذه المادة لا تقبل هذه الصورة أصلا‏.‏

وقال‏:‏ إن الأفلاك حصلت من العناصر الأربعة لا أن العناصر حصلت من الأفلاك ففيها نارية وهوائية ومائية وأرضية إلا أن الغالب على الأفلاك هو النارية كما أن الغالب على المركبات السفلية هو الأرضية‏.‏

والكواكب نيران مشتعلة حصلت تراكيبها على وجه لا يتطرق إليها الانحلال لأنها لا تقبل الكون والفساد والتغير والاستحالة وإلا فالطبائع واحدة‏.‏

‏.‏

والفرق يرجع إلى ما ذكرنا‏.‏

ونقل ثامسطيوس عن أرسطوطاليس وثاون وأفلاطون وثاوفرسطيس وفرفوريوس وفلوطرخيس وهو رأيه‏:‏ أن في العالم أجمع طبيعة واحدة عامة وكل نوع من أنواع النبات والحيوان مختص بطبيعة خاصة وحدوا الطبيعة العامة بأنها مبدأ الحركات في الأشياء والسكون فيها على الأمر الأول من ذواتها وهي علة الحركة في المتحركات وعلة السكون في الساكنات‏.‏

وزعموا‏:‏ أن الطبيعة هي التي تدبر الأشياء كلها في العالم حيوانه ونباته ومواته تدبيراً طبيعياً وليست هي حية ولا قادرة ولا مختارة ولكن لا تفعل إلا حكمة وصواباً وعلى نظم صحيح وترتيب محكم‏.‏

قال ثامسطيوس‏:‏ قال أرسطوطاليس في مقالة اللام‏:‏ إن الطبيعة تفعل ما تفعل من الحكمة والصواب وإن لم تكن حيواناً لأنها ألهمت من سبب هو أكرم منها وأوماً إلى أن السبب هو الله عز وجل‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إن الطبيعة طبيعتان‏:‏ طبيعة هي مستعلية على الكون والفساد بكليتها وجزئيتها يعني الفلك والنيرات وطبيعة يلحق جزئياتها الكون والفساد لا كلياتها يريد بالجزئيات الأشخاص وبالكليات الأسطقسات‏.‏

رأي الإسكندر الأفروديسي وهو من كبار الحكماء رأياً وعلماً‏.‏

وكلامه أمتن ومقالته أرصن‏.‏

وافق أرسطوطاليس في جميع آرائه وزاد عليه في الاحتجاج على أن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها كلياتها وجزئياتها ومما انفرد به أن قال‏:‏ كل كوكب ذو نفس وطبع وحركة من جهة نفسه وطبعه ولا يقبل التحريك من غيره أصلاً بل إنما يتحرك بطبعه واختياره إلا أن حركاته لا تختلف أبداً لأنها دورية‏.‏

وقال‏:‏ لما كان الفلك محيطاً بما دونه وكان الزمان جارياً عليه لأن الزمان هو العاد للحركات أو هو عدد الحركات ولما لم يكن يحيط بالفلك شئ آخر ولا كان الزمان جارياً عليه‏.‏

لم يجز أن يفسد الفلك ويكون فلم يكن قابلاً للكون والفساد وما لم يقبل الكون والفساد كان قديماً أزلياً‏.‏

وقال في كتابه في النفس‏:‏ إن الصناعة تتقبل الطبيعة‏.‏

وإن الطبيعة لا تتقبل الصناعة‏.‏

وقال‏:‏ للطبيعة لطف وقوة وإن أفعالها تفوق في البراعة واللطف كل أعجوبة يتلطف فيها بصناعة من الصناعات‏.‏

وقال في ذلك الكتاب‏:‏ لا فعل للنفس دون مشاركة البدن حتى التصور بالعقل فإنه مشترك بينهما وأومأ إلى أنه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها قوة أصلاً حتى القوة العقلية‏.‏

وخالف بذلك أستاذه أرسطوطاليس فإنه قال‏:‏ الذي يبقى مع النفس من جميع مالها من القوة هي القوة العقلية فقط ولذاتها في ذلك العالم مقصورة على اللذات العقلية فقط إذ لا قوة لها دون ذلك فتحس وتلتذ بها‏.‏

والمتأخرون يثبتون بقاءها على هيئات أخلاقية استفادتها من مشاركة البدن لتستعد بها لقبول هيئات ملكية في ذلك العالم‏.‏

رأي فرفوريوس وهو أيضاً على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وهو الشارح لكلام أرسطو أيضاً وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشاراته وجميع ما ذهب إليه‏.‏

ويدعى أن الذي يحكى عن أفلاطون من القول بحدوث العالم غير صحيح‏:‏ قال في رسالته إلى أبانوا‏:‏ وأما ما قذف به أفلاطون عندكم من أنه يضع للعالم ابتداء زمانياً فدعوى كاذبة وذلك أن أفلاطون ليس يرى أن للعالم ابتداء زمانياً لكن ابتداء على جهة العلة ويزعم أن علة كونه ابتداؤه‏.‏

وقد أرى أن المتوهم عليه في قوله‏:‏ إن العالم مخلوق وإنه حدث لا من شئ وإنه خرج من لا نظام إلى نظام‏.‏

وقد أخطأ وغلط وذلك أنه لا يصح دائماً أن كل عدم أقدم من الوجود فيما علة وجود شئ آخر غيره ولا كل سوء نظام أقدم من النظام‏.‏

وإنما يعني أفلاطون‏:‏ أن الخالق أظهر العالم من العدم إلى الوجود وإن وجد أنه لم يكن من ذاته لكن سبب وجوده من الخالق‏.‏

قال‏:‏ وقال في الهيولى‏:‏ إنها قابل للصور وهي كبيرة وصغيرة وهما في الموضوع والحد واحد ولم يبين العدم كما ذكره أرسطو طاليس إلا أنه قال‏:‏ الهيولى لا صورة لها فقد علم أن عدم الصورة في الهيولى‏.‏

وقال‏:‏ إن المركبات كلها إنما تتكون بالصور على سبيل التغير وتفسد بخلو الصور عنها‏.‏

وزعم فرفوريوس‏:‏ أن من الأصول الثلاثة التي هي الهيولى والصورة والعدم‏:‏ أن كل جسم إما ساكن وإما متحرك وههنا شيء يكون ما يتكون ويحرك الأجسام وكل ما كان واحداً بسيطاً ففعله واحد بسيط وكل ما كان كثيراً مركباً فأفعاله كثيرة مركبة وكل موجود ففعله مثل طبيعته ففعل الله بذاته فعل واحد بسيط وباقي أفعاله يفعلها بمتوسط مركب‏.‏

قال‏:‏ وكل ما كان موجوداً فله فعل من الأفعال مطابق لطبيعته ولما كان الباري تعالى موجوداً ففعله الخاص هو الإجتلاب إلى الوجود ففعل فعلاً واحداً وحرك حركة واحدة وهو الإجتلاب إلى شبهة يعني الوجود‏.‏

ثم إما يقال‏:‏ كان المفعول معدوماً يمكن أن يوجد وذلك هو طبيعة الهيولى بعينها فيجب أن يسبق الوجود طبيعة ما قابلة للوجود‏.‏

وإما أن يقال‏:‏ لم يكن معدوماً ما يمكن أن يوجد بل أوجده عن لا شيء وأبدع وجوده من غير توهم شيء سبقه وهو ما يقوله الموحدون‏.‏

قال‏:‏ فأول فعل فعله هو الجوهر إلا أن كونه جوهراً وقع بالحركة فوجب أن يكون بقاؤه جوهراً بالحركة وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون بذاته بمنزلة الوجود الأول لكن من التشبه بذلك الأول‏.‏

وكل حركة تكون فإما أن تكون على خط مستقيم وإما على الاستدارة فتحرك الجوهر بهاتين الحركتين‏.‏

ولما كان وجود الجوهر بالحركة وجب أن يتحرك الجوهر في جميع الجهات التي يمكن فيها الحركة فيتحرك جميع الجوهر في جميع الجهات حركة مستقيمة على جميع الخطوط وهي ثلاثة‏:‏ الطول والعرض والعمق إلا أنه لم يكن له أن يتحرك على هذه الخطوط بلا نهاية إذ ليس يمكن فيما هو بالفعل أن يكون بلا نهاية فتحرك الجوهر في هذه الأقطار الثلاثة حركة متناهية على خطوط مستقيمة وصار بذلك جسماً‏.‏

وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة لأن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه فعند ذلك انقسم الجوهر فتحرك بعضه على الاستدارة وسكن بعضه في الوسط‏.‏

قال‏:‏ وكل جسم يتحرك فيماس جسماً ساكناً في طبيعته فبول التأثير منه حركه معه وإذا حركه سخن وإذا سخن لطف وانحل وخف‏.‏

فكانت النار تلي الفلك‏.‏

والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل فلا يتحرك لذلك بأجمعه لكن جزء منه فيسخن دون سخونة النار‏.‏

وهو الهواء‏.‏

والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك فهو بارد لسكونه وحار حرارة يسيرة بمجاورته الهواء ولذلك انحل قليلاً‏.‏

وهو الماء‏.‏

وأما الجسم الذي يلي الماء في الوسط فلأنه بعد في الغاية عن الفلك ولم يستفد من حركته شيئاً ولا قبل منه تأثيراً‏:‏ سكن وبرد‏.‏

وهذه هي الأرض‏.‏

وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها من بعض اختلطت وتولد عنها أجسام مركبة‏.‏

وهذه هي الأجسام المحسوسة‏.‏

وقال‏:‏ الطبيعة تفعل بغير فكر ولا عقل ولا إرادة ولكنها ليست تفعل بالبخت والاتفاق والخبط بل لا تفعل إلا ماله نظم وترتيب وحكمة وقد تفعل شيئاً من أجل شيء كما تفعل البر لغذاء الإنسان وتهيئ أعضائه لما يصلح له‏.‏

وقد قسم فرفوريوس مقالة أرسطو طاليس في الطبيعة خمسة أقسام‏:‏ أحدها العنصر والثاني الصورة والثالث المجتمع منهما كالإنسان والرابع الحركة الجاذبة في الشيء بمنزلة حركة النار الكائنة الموجودة فيها إلى فوق والخامس الطبيعة العامة للكل لأن الجزئيات لا يتحقق وجودها إلا عن كل يشملها‏.‏

ثم اختلفوا في مركزها‏:‏ فمن الحكماء من صار إلى أنها فوق الكل وقال آخرون إنها دون الفلك قالوا‏:‏ والدليل على وجودها أفعالها وقواها المنبثة في العالم الموجبة للحركات والأفعال كذهاب النار والهواء إلى فوق وذهاب الماء والأرض إلى تحت فعلم يقيناً أنه لولا قوى فيها أوجبت تلك الحركات وكانت مبدأ لها لم توجد فيها وكذلك ما يوجد في النبات والحيوان من قوة الغذاء وقوة النمو والنشوء‏.‏